ملاحظات في قراءة رواية «كائنات البن» للأديبة بلقيس خالد
الروائي والناقد ناظم عبد الوهاب المناصير
في أحدى الأماسي الباردة، غفوتُ و روايـة ( كائنات البن) ـ لِمُخْبِرَةِ
كلماتِها وفكرتِها الشاعرة والأديبة بلقيس خالد ـ بيــدي.. كنتُ أقرأها، وفي صباح اليوم
التالي، نهضتُ مبكـرا فكانت جليستي. روايـةٌ موضوعهــا حساس، قد تكون أحداثهـا فيهـا
شيء من التعقيد والبساطة معا، ويدخل فيهـــــــا التنوع البلاغي والحبكة في أســـلوبٍ
مفرط بلغــة شعريـة، طالمـا تلوح خلال مداخلهـا رومانســية، تنقلنـا إلى أجواء الشــعور
في مغادرة المللِ والفراغات إلى كنز من نسق الأحاسيس المتألقـــــة أو المنفرة أحيانــا،
لا من ناحيــة الأسلوب، ولكن من ناحية الحدث في سياق الرواية، التي ربما نحسّ فيها
الصدق وأحيانا نرى فيها شفافية موغلـة في عمق صور مبدعة، وأحيانا تمور فيها الحياة
في عالم قاسٍ.
الحوار في اشتباكاتـه العلنيـة، أحيانا يتراجع في غموض تحت ومضات قلقـة
مستمرة وقد تكون حالمة.
الثورة في النفور والتلاقي فيها حركة دائمية، ويمكننا القول بأنّ لغتهـا
الشعرية تبرز منهـا مجموعــة اتجاهات تختلف في واقعيتهـا، منشــغلـة برمزيتهـــا، قد
تستند إلى أتجــاه حاد في العبثيــة.
الكاتبــة هضمت القضية الانسانية والاجتماعيــة بشكل أوســع وبتجديـد
شـامل، ليس مقيدا، وإنّمـا منطلق من سير الأحداث في الســرد المتواصل والمتشابـك في
أرديـة متأملـة، لكنهـا تبقى بروحيـــة التجليـــات الغارقـــة بالمحنـة والتجافي..
ليست أرجوزة، وإنّما تزيد مهامها وسلوكهـا تحت أجواء مشبعـة برؤى داخليــة وأحيانا
خارجية، أو أنها بعيـــدة عن التواصل الذاتي، لكننـا نتساءل: هلّ مجتمع الرواية أنتهــازي
أو أنــه عبثي أو في بعض الأحيـــان يتلبسه شيء من التناقضات؟ أو ّ أحداثها مفرطة بالواقعية،
لكننا نراها نظيفة، واعيــة، مبهجة في أحايين كثيرة، وفي قسم منها قد تتلألأ بالعفة
والنقاء؛ وكما يقول أديبنـــا الكبير اسماعيل فهد اسماعيل (هناك حكايات عديدة ســـاحرة
متوارية في ثنايا النص «كائنات البن» جراء طغيان ما هو شعري على ما هو سردي، رغم إنحيازي
للســـــرد إلاّ إنّي تفاعلتُ مع النص وشاركتُ نسوته معاناتهن وخساراتهن. هناك شفافيــة
رائقـة تأخذ بخناق الواحـد وهو يُتابع قراءة النص).
بالنسبة لي، قد أختلفُ مع الروائي العربي إسماعيل فهد إسماعيل، لأنّي
أميل إلى السرد كليـّـا بلغتـه الشعريـة، فأنا أتفاعل مع الشعر. الأديب الكبير جبرا
إبراهيم جبرا، اشترط أن تكون الرواية الجيدة متضمنـة للجو الشعري وأن يكون كاتبهـا
على صلة عميقة بالشعر أو قـد يكون شاعرا فيما مضى فيصب لغته الشعرية في لغة الروايــــة
(مجلة آفاق عربية عدد 7/ آذار/ 1977) أو كما يقول الدكتور ناصـر يعقوب: أضحت الكتابــة
الروائيــة داخليــة ذاتيــة الأمالة والأنعكاس تتطلب الأيغال في الذات، مما يتطلب
لغة شاعريـة (اللغة الشعرية في الرواية العربيــة ــ 1970ـ 2000د. ناصر يعقوب المؤسسة
العربيــة للدراسات والنشر بيروت ط1/ 2004 ص 22 ـ 23).
الكاتبة بلقيس شاعرة متمكنـة، أصدرت ثلاث مجاميع شـــعرية، لا نخالهـــا:
تنزع في الخروج من بوتقــة الشـــــعر، أنهـا تكتب وتحوم حولهـا أطياف الشـــعر القريب
في تقاسيم نشيطة وقد تكون سحرية متجددة. في هذا السياق نؤكد أنّ الروايـة عمل أبداعي
متزن في نسق واعٍ لفضاءات متداخلة ولا بد أن تكون أحداثها ذات صلة بآخر نتيجة لها في
بناء درجات من السرد المنطلق في أوقات محددة والتي قد تتواصل أيقاعاتها في ثنايا نصوصها
فتضرم ريحة الحكايات بأحداثٍ مشبعة في التفاعل الوجداني، والذي يُشير لعمقٍ فلسفي رصين.
يقول الدكتور ســــلمان كاصد في كتابه (صفة السرد ص 6): (إنّ الرواية
نتاج أبداعي لصانع ماهر تبدو مهارة الصنعة فيها موازية لبلاغة القصيدة)، أي أنه هناك
أنسجام في العبارات وألهام في الأيقاع!ليس بناء الرواية، كبناء القصة القصيرة، فالقصة
القصيــــــــرة، قد تكون لمشهد واحــد، أشـبهـهـا بفصل مسرحي واحد، أمّا الرواية
(فهي تسجل أكثر صعوبة وتعقيدا من القصص، لكنها لها تأثير كبير في المجتمع، أنهـا تتحدث
عن المواقف وتجارب البشرية في زمان ومكان معين) ص 8 من كتاب البنية السردية في روايات
جاسم المطير للكاتبة ضي عبدالأمير حبيب.
تتميز الرواية بمشاهدها المتداخلة مع بعضها، وعلى المتلقي أن يهضم تلك
السيرة بوضوح من خلال نسق بنائي عمودي، وربما أفقي، كما هو الأنطباع السائد لهذه الرواية
الشَيِّقـة التي نحن بصدد قراءتها لأكثر من مرة واحدة، والتي حتما أنّ أحداثها مستمرة
في أتون تداخلات مربكة أو أنها تعطي نتائج بصيغة واحدة، لكنهـا بعـد أن تمرَّ بوحم
التفاصيل إلى أمام أو إلى الخلف و بعدد من الجبهات تتركز في منهجية واحدة ودلالة لأفكار
عميقة.
الخوف قد يعطي تصورا مقيدا، لكنه يلمح في خروجه من تحت ثوب براءة معهودة
حينما (تمسكت الطفلة بساقَيّ والدتها: ماما أنا خائفة دعينا نجلس أين صاحب المحل؟ أنحنى
والدها وقبّلهـا: لا تخافي، لا شيء هنا.. هذه خيالات الإضاءة) ص 19، ومن ثمّ يمنح طفلته
دفقا من آليـة الشجاعة غير المصونة بقوة أرادة أو أنه وضعها في حالة تسلو فيها عن النفس
بالصبر، فيقول للطفلة (أنتِ طفلة شجاعة.. انتظري هنا مع ماما، سأبحث عن صاحب المحل..
صاحت الطفلة لا بابا لا تذهب، أنا خائفة.. دعنا نأخذ البدلة ونخرج) ص 20.. الطفلة واثقة
بأنّ الخوف سيهزم العائلة بما فيهم هي وأخوها وأبواها.. القلق والشعور بما لم يحدث
حتما أنه هناك سنجد صراعات نفسية تخيلية تحت نزاع الخوف (ثمة حركات وأصوات مبهمة ومخيفة
تصدر بين حين وآخر حتى تملكهم الخوف وشعر الوالد بضرورة الخروج من المحل، ولكن الطفلة
متعلقة بالبدلة) ص 21.وفي مكانٍ آخر، ربما أنّ أحدا ما يبحثُ عن الأمل وينظر في وسط
ظلام وفوضى أو أنّ هناك شعلة تُوقد (في هذه الظلمة نجري هل نستطيع أن نرى أملا أو ما
يشبه الأمل؟ كيف.. والفوضى تطلب الفوضى والحياة تخزرنا) ص 40.. أو (نجترح خطوة جديدة
تجاه التل نوقد الشعلة) ص 40.. التعذيب والقتل، وليد سياسة رعناء، الأرهاب يمارس سلطته
ومنها كل أسباب الفوضى والقتل (كيف أهدأ.. ألم تسمع صديقه هل يتركونه بسلام.. ها؟ أجبْني
هل يتركونه بسلام لقد أرادوا قتله.. أرسلوا منْ يقتله.. أين نحنُ.. عقلي لا يستطيع
أستيعاب ما سمعت.. يا إلهي هو يقاتل معهم يدافع عن هذا الوطن.. يقاتل ويريدون قتله)!
ص 47.
ففي هذا المأزق.. المكان، لم يكن إلاّ الوطن أرضا وسماءاً مهددا بالأنعزال
والقسوة، لكننا قد نعبر معنى الزمن في ماضٍ وحاضر ومستقبل قريب في أتون معركة دائمية
بين الخير والشّر. الصور المربكة تعطي مرتعا كافيا لانهيار بعض مباهج الحياة والدلالة
العميقة تثبت شرعيتها من خلال التكثيف في فضاءات الوجدان والأنسانية ضمن كائنات تثبت
وجودها ، وتتهيـأ لتكون واقفة تفضي إلى من يأمرها بأن تبقى تتسكع في واقع مرير قد يكون
دما أم نار (شكل أمواج من دمٍ.. وربما من نارٍ، تعبر حدود الخيال) ص 53.
ليس المهم فيما تقوله الرواية، بل ما تحاول قوله، إذ أنها نجحت في أن
تتخطى الأشكال المتغضنة والدلالات العفوية، وكان لها أن تقول كل ما أرادت قوله، أمّا
ما يطرأ في مدى النسق الروائي فتظهر شدقات الخطيئة بكل سلطانها وعنفها! إذن من المسؤول
عنها؟ هل الظروف المربكة أو القدر أو أن تكون تلك القوة المبهمة التي لا تنفصم من أبجديات
السحرة والأشرار وهم فيما نعتقد على تضاد من الطبيعة الأنسانية ، لذلك تراءت لنا صور
متتابعة والفنجان بقي يتأمل الوجوه من خلال حبات البن المطحونة وكأنّ الأحلام تهزّ
أركان الفكر والخيالات، وقد يُجَرِد القتل الفاضح بند الأنسانية من مبتغاه.. وتنتهي
الصور في واقعية متزمتة، أنهكها الزمن، لكنها تنتشل المجد من وراء سور أخضر دفاعا عن
عراقية العراق!