فنارات تضيء عتم أسرار الحياة
قراءة في (إمرأة من رمل) للشاعرة بلقيس خالد
جبار الوائلي
بعد قراءتي لديوان ( أمرأة من رمل ) للشاعرة بلقيس خالد ، أستفزني إسلوبها ، بدهشة تصاعدت إلى ذروة الامتزاج والتلقي ، من خلال تداخل طابع الخيال مع فرضيات الواقع بالتوحد العفوي ، أو ذهول وقفات من التأمل رغم حدة إصطراعاتها لتعطيل آلية مجريات الحياة . فكان لهذا ميزان العقل الشعري الذي عادل عمق المعاناة ، بتدفق إنسيابي وبخضم أسئلة ثقال ، فتمخض عن ذلك صخب أنين الاوجاع ، بمعادلة أعطت قوة التفاعل وديمومة التواصل والاندماج مع الطابع العام لحركة الاشياء ، فمنحتنا تلك الاوتار قوة الغوص - دون كد ذهني – لفك مغاليق النصوص ، وقراءة صافحتنا بقوة السرد الدلالي والتركيبي من خلال بنى النصوص ، تدبجت برهافة ودقة متأنيتين ، بعيداً عن وقفات المراوحة والاستطالات السائبة ، إضافة الى عمق نكهتها المستساغة في تأجيج مشهدية الصراع المنلوجي الصاخب ، وهذا ما أبعدها ـ تقريباً ـ عن هيمنة الاستطرادات الانشائية ، وخلق حالة من التواصل المحكم والمستبطن لمفاتيح العناوين ، عبر فلسفة جاشت بمكابدات دون جدوى لبصيص أمل لن تراه .
( لن أبكي
حتى تحضر
ما فائدة ذرف دمع
لن تراه . )
مؤكدة في ذلك رسم محيطها التشائمي ، عازية الى واقع جسد وحشية التهميش ، فتشكل مناخاً سوداوياً كبل أجنحتها أن لا تروم إنبثاق ربيعات اللحظات الاتية ، وهذا ما أطلق عليه الشاعر والناقد مقداد مسعود في مقدمة الديوان ب ( حالة الافتراس ) .
حيث جسدت ذلك بارتداد سلبي ولد محصلة فجاعة مكارم الحزن المأجور، وباكف ضنك سخى بما يريد ... بقولها :
( إطمئن
لم يمسنا الحصار بسوء
حين قصدت أخاك
من قطيع أبقاره
أهداني قطعة زبد
في
يوم قائظ . )
ومن عمق زمن تمادى بشراسة قدرية العتاة ، أن لا يمنحوا قرارة طمأنينة الصفاء ، حتى ولو بنقطة ضوء راحمة مؤكدة ذلك بقولها :
( سلحفاة الوقت
لا تواصل العزف
على أوتار صبري ! )
ومن الملاحظ أن المرأة في قصائد الشاعرة كائناً شمولياً له صداه المعلن ، رغم تغيير قوالب البنى الروتينية الجاهزة ، التي لبدت ثورة البزوغ من خلال ركاكة الاستنتاج المتمرد . إلا إنها وبوقوف طودها العنيد أزاء إصطراعات المعترك المتجني ، وإفتراءات إجتراراته الموهومة في زمن التسلط والقمع ، في منظور أعتمت عليه أدران العقل السقيم ، فحانت ثورة الشاعرة بانبثاق كينونة المولود الجديد ، سواء على الصعيدين الذكوري أو الانثوي .
فشكل هذا الرصد الامعان المتريث ثورة تمردية ، تجلى سطوعها معيارا بوضوح فنارات لغة الاعماق ،فهذه الدهشة كان لها رصدها المتأني ، وهويتها المقروءة ، وقيثارها النغوم ، بعزف طرق الابواب المقفلة بصدى بريق أجفل عزلة الكظوم ، مسجلاً _ وبجرأة _ إسبيانه المكشوف بخارطة واضحة المعالم والبيان . كما إستطاعت الشاعرة وبعمق حنكتها الحياتية المريرة أن توقد في بعض مضامينها دلالات الومض الفلسفي الذي دبج بزهو قوافل الاحزان ، نحو فضاءات تجهل خواتم مسارات النهايات ! وقد جاء هذا التوكيد بقولها :
( كلما صهل البرق
في ظلمة سمائي
أغمض عيني فأرى الكآبة
بكامل قيافتها )
ثم نلمس من خلال غورها عمقها المخبوء ، فجاجة مشاكسة غلاظة الاوهام ، حينما تكبلنا معاقل الاسداف ، تحت سياط سخرية الزمان ، فيختفي ألق التمني الى عالم مجهول . كما جاء في قولها :
( خلف ستار النافذة
يختبىء النور
يشاكسه هواء المراوحة
بين الحين والآخر
يبصرني ويختفي ... )
فمن هذا الترابط الوشيج أرى أن النور بات معيارا تخييلياً ووهماً تكتنفه مخيلة الفراغ ، أو خدع تجتابها مديات تقرع الصدى دون أدنى لناصيات التمني ، لان معيننا يخلو دون أدنى من قطرة للحياء ؟! وقد جاء هذا جلياً بتأكيد حسي دقيق :
( في حجرتي المظلمة
صوت القصيدة ينادي
إلبسيني ثوب النور
ألمح عين النور
تثقب الستار ،
.. فتحترق القصيدة ! )
كما يتجلى في بعض قصائدها ، ترصيع حكموي يجسد إنسانها المخبوء ، الذي هشّم أسوار عزلة الضياع ، بايقاظ ملاكها المنّوم ، إبتغاء لصحوة الحجر ، وصرخة نقاء لأصغاء ضمير الجليد ! حينها تناجينا بتراتيل صدق شفافية المنال ، بقولها :
( تعذبني أحتمل
لأنك ضميري الذي لا يغفو )
كما رصعت حكماً تلألأت بعمقها الرصين :
( القوقع البحري ..
يوهم نفسه بهدير البحار
ليطرد أشباح التصحر )
ومن الاستطراد الحكائي تسمو الشاعرة بتواشج سردي الانفعال بتأجج غليان زعزع جودة الارتكاز وجزالة المقصود . إلا أني وجدت وبعيداً عن المواربة ولغة المجاملات إن في بعض قصائدها ـ رغم ثورة جنونها الساخط ـ غوص في أعماقنا بوجدان إنشودة يسمعها الصم وينطقها البكم بصداحة دون ان تطرق باباً أو تلوذ وراء مغاليق الابهام .
*بلقيس خالد/ أمرأة من رمل/ دار الينابيع/ دمشق/ط1/2009
*الورقة المشاركة ،في جلسةإحتفاء نادي النعيم الثقافي،بالشاعرة بلقيس خالد