أغصان الحياة ؛ قراءة في (بقية شمعة قمري) للشاعرة بلقيس خالد
وجدان عبد العزيز
في الصباح كنت قد داعبت وردة مبتلة بالندي وسمعت زقزقة عصفور الشجرة، وقبلها ليلا ركزت النظر بفضية القمر الذي يشبه وجها تشع منه ابتسامات، كان ذلك القمر يعانق أفق الكلمات الملبدات بشحنة العاطفة، حتي عزفت (أوتار بكماء) لحنا موسيقيا يتواري في أفق بعيد، لينزاح امام شحنات الحب الصامت وهو يحاول التخلص من هيمنة الآخر بذهنية تحمل الجمال سلاحا حضاريا ضد قوة القبح، ثم انها تلون المحيط بالالوان الفاتحة، لتعلن عن الحقيقة، (فلن تعد الروح تطيق احتمالا لهذا الحب الصامت)، فكان ديوان (بقية شمعة قمري) للشاعرة بلقيس خالد هو الصرخة المنتظرة طويلا علي أغصان الحياة والتي أقالت الصمت من حولي ووجدتها تصارع ضد هيمنة الآخر وهيمنة الخطوط الاجتماعية الحمراء، بيد إنها في الخفاء تتمسك بهذا الآخر كجزء من الاحتفاظ بالوفاء والحب … فمن الإهداء إلي رحيم جمعة الذي احتل مكانة بين العنونة والمتون، ليعلن من أول وهلة تمسك الشاعرة بالآخر الذي شاركها أفراح وأحزان الحياة وتشابكت بينهما العواطف وأثمرت، انه زوجها وبعد هذا عزفت الشاعرة علي أوتارها البكماء لتصبح أوتار ناطقة، فإذا هي تعطي ألحانها ..
(أراني مثل نملة.. حين تمطرني سمائك/ أشكو خزين أوجاعي/ إلي: شمس).
ثم يبدأ صوتها بنغم الحياة …
(يجذبني الشوق/ إليك برغبات/ متعثرة/ لست شمعة/ لكنني.. أحب/ السيل
تحت اللهب).
وبعبارات شعرية رشيقة أظهرت بكل وضوح قدرتها الكامنة في المواجهة والاستمرار، فهي ليست شمعة ولكنها تكتوي باللهيب وأي لهيب هذا، سؤال قد يجيب عنه الشعر بإجابة مختفية بين السطور تتبع حنكة الشاعرة وصبرها في إيصال المعني الذي تحاول بكل صبر إخفائه وبحياء لاذ بين حروفها:
(مسامير/ طويلة: أثبت الظل بها، لعلي/ أسبق الوقت).
وهذا السباق الذي تقصده هو بحث جمالي في مساحات اللحن وعلي أوتار بكماء تقول:
(لأعزفك… لابد/ من إتقان،فن: الأصابع).
هكذا الشاعرة بلقيس تبرهن علي مشوارها المستمر بالحياة التي هي صوت، يقابلها الموت الذي هو صمت هذه الثنائية المقلقة للشاعرة قادتها، لان تجعل الصمت ناطقا في حضرة الحب:
(يوهمنا الظلام بالنوم.. نسير الليل/ كله/ل/ ملاقاة حقيقتنا في الشمس).
فالحب عند الشاعرة يعني الوفاء كما أثبتته في الإهداء وهو ناصع الوضوح كالشمس . إذن الشاعرة بنت معادلتها المنطقية علي طرفين نقيضين هما: الحياة والممات أي بلقيس + رحيم جمعة = خلود الحب ومن هنا بقيت الشاعرة تصارع من اجل البقاء بعد رحيل رحيم جمعة من عالم الحياة الي عالم الموت وبقيت هي تعزف علي أوتارها البكماء التي استجابت لحالات بحثها الجمالي عن الخلود وكما أسلفنا قد نطقت، لذا تدخل جهاتها المتعددة محققة بذلك تجسيما ماديا علّها تخبرنا عن المعني الذي تروم الوصول إليه
(نهر أنا.. كرهت عذوبتي/ في/ عالم/ نقي/ جدا).
وفي الجهة الاخري تقول:
(ألا من معجزة.. تجدني؟ حقيقة أنا/ ضيعتني/ الأقنعة).
هذا التوتر المقلق يزيد انفعال الشاعرة باتجاه محاولة كشف الأقنعة، وقد نلصق تهمة ان واسطتها هو ما تحمله من نقاء وصدق في صومعة الحياة بضجيجها المتصاعد ونفاقها المتفاقم والصراع الإنساني العولمي باتجاه السعادة وتوحيد لغة الجمال الشعري، من هذا قد نلاحظ الشاعرة جادة في خلق لغة الفراغ علي بياض الورق وهو كلام غير منطوق غير انه يحمل معني باطنا ومن هنا (ترتبط أساليب التعبير ووسائله ـ علي نحو مباشر ـ بمستوي النضوج العقلي الذي يبلغه الوعي الإنساني في مسيرته التطورية عبر التاريخ. وتتنوع تلك الأساليب وتتعقد وفق شروط ذلك التطور . وتنطبق هذه الحقيقة علي أساليب العقل في التعبير عن مكوناته في مجال علاقاته بالكون والحياة الاجتماعية، وفي ميدان التعبير الإبداعي ـ الفني الذي يمثل اختزالا لصورة العالم الموضوعي والحياة الإنسانية منظورا إليها من خلال الرؤية الذاتية المبدعة)، وحينما نتعمق في مسار البحث الجمالي المعلق في نصوص الشاعرة بلقيس خالد قد نعثر علي الكثير من نفحات المعني في قولها :
(بيني وبين
حبيبي
إغفاءة
…….
والنوم طير مهاجر.)
(مهرة…
منذ أعوام،
أسرجتها…،
ولا فارس،
مزق فضاء الحلم ؟)
فالحياة هي إغفاءة ولايوجد من يمتلك القدرة علي فض فضاء الحلم واكتشاف حقيقة الحياة، فقد تكون هي خارج الصراع داخل البحث عن الخلود كما أسلفنا في المقدمة (فان الكاتب الجيد لايضع في نصه الا بذورا قابلة للاعتماد علي نفسها داخل النص غير محتاجة الي شيء خارج النص ليدعم وجودها، وكل الغاز النص تكون قابلة للحل بناء علي الأعراف الأدبية المصطلح عليها بين الكاتب والقارئ)، هكذا أري نصوص الشاعرة وهي حبلي بالكثير التي تتلفظ به ليس جزافا إنما توطئة لاستمرار بحثها، فهي احيانا مسافرة تحمل حقائب وتمخر عباب البحار والفضاءات أو هي جندي محارب يتوسد الأرصفة، وقد تكون أنفاسه هي النشيد الوطني الذي يتغني بأمجاد الوطن ومن الجانب الآخر تقول :
(ألناس
يتحاورون
بالعصا
بعصا راع
ساق
حضارتنا
لكل
الحروب .
وجيز التأريخ :
عصا الرمان
عصا
قائد الوتريات
…..
الدكتاتور
…..
الإلكترونيك
بعصا الديمقراطية
تحرر
الشعب
بالجملة
والمفرد
من
الجاذبية )
فهي ضد العصا القوة الغاشمة بيد الدكتاتورية، لكن العصا أيضا يستخدمها الموسيقار للعزف من اجل الحب والحياة، والديمقراطية والتطور الحضاري يحتاج لهذه العصا، لذا نجد الشاعرة قد تصاعد قلقها ازاء هذا التوتر، وهي تحاول إيجاد دالة تمجد العصا وذلك بالتناص مع موت النبي سليمان:
(بفضيحة الموت/ طرز/ النمل/ عصا: سليمان/ العصا/ وسادة/ رجل/ كانت
بلقيس: وسادته. عند باب/ ال…/ وقفت/ العصا/ مثقلة/ بالأنين).
هكذا استخلصت فائدة العصا في اتجاه آخر، هذا الاتجاه كشف المعني الأساسي الذي طالما تغنت من اجله وهو الجمال والأمل.
(علي/ حدود/ البلاد: لا نافذة/ منها استنشق/ عطرك/ عيناك نافذتي/ من خلالهما/ أري غدي: ابتسامات).
هكذا تري الغد، وهكذا يبقي ديوان الشاعرة بلقيس خالد هو بحث عن الجمال الخالد، ولا ادري حينما أعيد الكرة في قراءات آخر ساجد عناوين لمعان آخر بكل تأكيد ساجد …
كتاب (جماليات النص الادبي) الدكتور مسلم حسب حسين / دار السياب ـ لندن لسنة 2007 ص43
كتاب (الخطيئة والتكفير) عبد الله الغذامي /المركز الثقافي العربي ط6 لسنة 2006 ص112