بين ماض جميل وحاضر ملتبس
ناهض الخياط
مع المجموعة الشعرية ( سماوات صندوق السيسم ) للشاعرة ( بلقيس خالد )
تقدم الشاعرة مجموعتها الشعرية ( سماوات صندوق السيسم ) ، الصادرة عن ( دار الضفاف ) للطباعة والنشر والتوزيع لسنة 2013 ، بعد محموعتيها ( امرأة من رمل ) 2009، و( بقية شمعة : قمري ) الصادرتين عن ( دار الينابيع \ دمشق ) . تضم المجموعة ( سماوات السيسم ) ستة عشر نصا بمئة وعشرين صفحة ، وقد اجتزأت الصفحة ُ الأخيرة لغلافها بضعة سطور من قصيدتها (مسرح ..مدفأة ) :
( صندوق حملَ تقاويم
ضحكاتي
مخاوف ليلي
قضم أضافري
كم تمنيت لابدة فيه
تبتسم جدتي
وأنا .. أهمسها : نزهاتي في سماوات السيسم ) .
لعلها تكون مرشدا لنا في استقراء عالمها ، مع ما يوحي به عنوانها المرتكز على جملتها ( نزهاتي في سماوات السيسم ) من قصيدتها ( عطرها إذ يمر ) . وصندوق السيسم ، صندوق كبير لحفظ ملابس العائلة ، وغيرها من الأشياء الصغيرة المهمة لها ، وهو من خشب السيسم المميز المتين مزينا ومزخرفا بالنقوش .
ما نعرفه عن العنوان بأنه المدخل الذي يفضي إلى فضاءات النصوص ، التي انفتحت على صفحاتها بذكريات طفولتها الحالمة التي ترعرعت بين حكايات جدتها . وهذا ما طفح به المقطع السابع من قصيدتها (لم تعد تحكي )، إذ نراه يختزل كل ما تركته حكايات جدتها من أثر عميق في نفسها ، و تمثلته في نصوصها .
وهنا يتداعى في ذهننا عالم الشاعرة بخصوصيته وألوانه وأسراره ، كما تتراءى لنا الراوية الحكيمة جدتها ، التي لا تدعنا ىمروياتها إلا أن نقول عنها : إنها الشاعرة ذاتها .لتضعنا على الطريق الذي يتوغل بنا في ذلك الزمن العتيق ، غير أنها لا تدع لخيالها أن يخترع شيئا غير ذكرياتها بين أهلها في ماضيها السعيد ، لأنها أجمل مما يمكن أن يضيفه لها الخيال .
لقد ظل عالم طفولتها هو المصدر الأساس الذي اعتمدته في نصوصها . وماكان قناع الجدة بمروياتها إلا وسيلة للرجوع لذلك الماضي الجميل ومعايشة أيامه وأحداثه وثقافته التي حافظت الشاعرة على تصويرها على حقيقتها ، لتشعر تماما بتلك السعادة نابضة في روحها ، كما أرادت الشاعرة أن تغذي مواضيع قصائدها بما تزخربه الميثولوجيا من أفكار ومعتقدات ،وهي هدفها ، لما فيها من الطرافة ، أو لتمرر عبرها ما تؤمن به من أفكار:
صاح مستبشرا
سيُكسر القيد
.....
وهو يحك يساره ( قصيدتها : مطوقة )
غير أن الحاضر لم يدع الشاعرة غارقة في سعادتها الماضية :
جدتي انظري.. احترقت البصرة
: انظري..
طائرات تحرق البيوت ( قصيدتها: جدة ما بعد الحداثة ) .
وهذه القصيدة تؤكد أن الجدة هي الشاعرة ( بلقيس ) ، حيث تصور لنا ما تعانيه في حاضرها مقارنة بما كانت تعيشه في أيامها الماضية . وهي لا تجد من تبوح له بمكنوناتها غير حفيدتيها ( هيا ورينا ) في مستهل قصيدتها الأولى ( جدة ما بعد الحداثة ) :
اشرأبت ْ )
بيديها
ولم تفلح ( رينا )
في إمساك لوحة
رسمتها ( هيا )
بحفنة من تراب
على وجه الريح )
فتشعرنا هذه البداية بأننا مقبلون على معايشة واقع مؤلم حزين .
ولكنها تفاجئنا بابتسامتها المضيئة في قصيدتها الأخيرة ( ابتسامة جدتي) و بآخر سطورها، لتؤكد لنا أن الشاعر الأصيل لن يتراجع أو ينهزم ، مهما اكفهر الواقع ، واستبدت الظروف :
( وها أنا
أكتب
وأكتب
وأكتب .. لعلها تبتسم تلك الابتسامة التي تشبهها سماء صافية ) .
وبرغم ما تمتلكه الشاعرة من الخبرة في كتابة الشعرإلا أنها تنزلق أحيانا بقصيدتها خارج ما يحتمه الشعر بخصائصه المائزة ، ومحورها خصيصة الانزياح . ففي طارئ الغفلة ، وفي بساطة اسلوبها الذي تتحلى به نصوصها ، تتخطى الحد الفاصل للشعر عن غيره ، في سياق مروياتها التي تسردها ببنية القصة القصيرة جدا ، أوالإخبارية المباشرة :
(المواكب على جانبي الطريق العام المؤدي إلى رمال الزبير ، توزع الطعام والماء وما يحتاجه الزوار ) من قصيدتها ( لا هديل في ذلك الغروب )
وربما تجد في ذلك التخطي مجالا للغة تعينها على التعبير الوافي عن مشاهداتها لمواجهة حياة ملتبسة ، وهموم واقع مرير . أو لمقتضيات السرد الحكائي لأيامها .
غير أن الجدة ( بلقيس خالد ) لم تبق صندوقها الشعري منغلقا على سماواته ، بعد أن فتحته بابتسامتها ! كسماء صافية بين سماواتها.